کد مطلب:306587 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:159

اهتزت المدینة برحیل الزهراء


.. فهرعت المرأة راكضة هائمة علی وجهها نحو المسجاة.. و كشفت الثوب عن وجهها الشریف.. الذی احاطته الانوار مثلما تحیط الكواكب الشمس.

فوقعت علیها تقبلها، و هی تولول قائلة:

- (یا فاطمة اذا قدمت علی أبیك رسول اللَّه فاقرئیه عن اسماء بنت عمیس السلام).

ثم شقت جیبها و خرجت تركض متعثرة لا تری ما امامها.. غیر صراخ، و صیاح یتدفق من حنجرتها.

فتلقاها الحسنان، فعندما نظرت الیهما.. توقفت عن بكائها و صراخها.. فلاحظا شكلها المفزع فقالا لها.. و قلبیهما یطرق بشدة:

- (این امنا).

.. و بصوت لا یمیزه عن التنهد غیر رنات الالفاظ الضعیفة قالت باكیة:

- (قد خلا البیت).

فأنبثقت الدموع من عینیهما.. و هرعا یركضان نحو الدار.. فدخلاه فأحسا ما كانا یخشیانه.. فاذا الشجنة ممدوة كأجمل ما تكون العروس لیلة عرسها.. فظلت عیناهما جامدتین امام هذا المنظر الضارع.

فبادر الحسین و تقدم نحوها فحركها و عیونه لا تحرك طرفها.. فأدار ببدنه نحو أخیه الحسن و قد علته عبسة و طعنت عیناه بلون أحمر، و أخذ حنكه الدقیق یرتجف، فقال و كأنه یحلم:

- (یا اخاه آجرك اللَّه فی الوالدة).


فسقط الحسن علیها یقبل و جنتیها المتوردتین.. و كأنه یری كابوساً اخافه، لكنه مدَ یده إلی قلبها.. و وضع رأسه علیها كمن یرید ان یسمع ما یقوله القلب.. و بصوت ضئیل ملئته اللوعة و الاسی، قال:

- (اُماه كلمینی قبل أن تفارق روحی بدنی).

وضل یهمس فی أذنیها تارة و یقبلها تارة اُخری.. و دموعه تستدر من عینیه، و قلبه یخفق سریعاً فارتمی بجانبه الحسین، و اخذ یقبل قدمیها و یتمسح بهما، و یقول بنبرات حزینة مفزعة:

- (اُماه انا ابنك الحسین كلمینی قبل أن ینصدع قلبی فأموت).

.. فركعت اسماء بجنب الحسنین، و هی تصارع شهقات البكاء، و قد احمرت عیناها كالدم و قالت لهما:

- (یا بنی رسول اللَّه.. اِنطلقا إلی أبیكما علی، فأخبراه بموت امكما).. فأشارا بنعم.

و خرجا من الدار راكضین هرعین.. و هما ینادیان بنبرات تخنقها الویلات والبكاء:

-(یا محمداه یا احمداه الیوم جُدد لنا موتك اذ ماتت امنا)..

فقض صوتهما اسماع الحی.. فكأنه یصدع بالآذان فارتجفت اجفان الراقدین، واهتزت ابدان السامعین.. فجزعت نساء الحی، و ذعرت ارواح الاطفال.. اذ تبطنت بملابس الدجی بنواح مؤلم، و بكاء حزین مر.. و عویل یتعالی متصاعداً من جوانب أزقة المدینة حتی وصل صداه.. الی المسجد.

فلما أن سمع نداءه علی صدع مغشیاً علیه، فسارع المسلمون برش الماء علیه.. فأفاق إلی نفسه و ولداه بجانبه یبكیان و یصرخان.. فاحتضنهما لانهما فقدا كل قواهما فلا یستطیعان ان یتكلما من شدة الفزع والهول، الذی انتابهما.. فحملهما الاب.. و ركض إلی البیت.. إلی دار الراحلة الشهیدة.. و مقلتاه ما تزالان جامدتان.


لكن قلبه كان ینزف بالدماء.. و شعور كان یتحدر من فؤاده شعور الحب، الذی یكنه لفاطمة الودود.. فصار لسانه یقول:

- (بمن العزاء یا بنت محمد، كنت بك اتعزی ففیم العزاء من بعدك).

.. و ما لبث.. حتی وصل البیت.. فدخل إلیه هائماً علی وجهه.. حتی ان فتح باب حجرتها.. فرأی النور یسطع منها. و رأی هیكل زهرائه الودیع، الذی فاحت منه عطور الفغم والریاحین، فملأت سماء الحجرة.

و كأننی سیدی یا أمیرالمؤمنین كنت بقربك، اسمع الصرخات واری الدموع التی تسكبها و ولدیك.. فما استطعت ان اعبر عن ذلك الموقف الممتلی ء بالعبرات والآهات.

فالتعبیر سیدی لمثل هذه المواقف یستوجب العلم بحقیقة الشعور الرابض فی اعماق النفس.

فتهدلت اكتاف علی.. و اخذت قدماه ترتعش و هو یعد خطواته كالذاهل المشدوه.

«فقد انهد الركن الثانی، الذی أخبره به حبیبه رسول اللَّه». [1] .

.. فأغمض عینیه.. حتی ان وقع بقربها.. فكشف عن وجهها الشریف!

آه یا للمنظر الحزین.. كیف لعلی والذی طوته رقة القلب ورهافة الحس حتی علی عدوه ان یری بأم عینیه بتوله بنت حبیبه محمد صلی اللَّه علیه و آله و سلم سابحة ببحر من الدموع.

كانت عینا الزهراء المغمضتان، والتی انتشرت حول اجفانها دموع لؤلؤیة أشد ما تكون، و هی تخاطب اشجانها.. حتی اللحظات الاخیرات، و قدّاها كانتا متوردتان یشع منهما نوراً ابهراً.


و كأن شفتیها ما زالتا ترددان لحنهما القدیم:

- (اننی أتیت إلیك یا ابتاه)-

ان الزهراء كانت فی تلكم الساعات تبدو كالعروس.. بل هی اینع بشرة واجمل بسمة.. و كأنها ستزف تواً.

.. فأخذ الزوج المنهدّ الركنین، یمسح بیدیه علی وجهها ما علق به من الدموع، ثم یقربه إلی فمه فیقلبه.. و یكرر ذلك مراراً فیمسح به تارة وجهه و تارة عینیه.

.. و ظلت مقلتاه ترقبان الشهیدة.. و هما ما تزالان جامدتین برقرقة الدموع.. و ترتلان همساً دقیقاً غیر مسموع.

همساً ما لبث حتی اقترب من اُذنیها یعاتب منها الفراق.

لكنه انتفض من حزنه إلی شی ء لفت نظره عثر علیه قرب رأس الزوجة الطاهرة، فسارع و تناولها (انها برقعة).. ففضها الامام.. و اخذ ینظر فیها فاذا هی:

(بسم اللَّه الرحمن الرحیم: هذا ما اوصت به فاطمة بنت رسول اللَّه، اوصت و هی تشهد ان لا إله إلّا اللَّه و ان محمداً عبده و رسوله، و ان الجنة حق و النار حق و ان الساعة آتیة لا ریب فیها، و ان اللَّه یبعث من فی القبور، یا علی انا فاطمة بنت محمد زوجنی اللَّه منك لاكون ذلك فی الدنیا و الآخرة انت أولی بی من غیری، حنطنی و غسلنی، و كفنی باللیل وصل علیَّ وادفنی باللیل و لا تعلم أحداً و استودعك اللَّه واقرء علی ولدی السلام إلی یوم القیامة).

.. فابتلت الرقعة بدموع الوصی بعدما انفجر بالبكاء فی أول وهلة فض بها وصیة الزهراء. [2] .

فصحن نساء أهل المدینة صیحة واحدة،.. و هن یندبن فاطمة.

- (وا سیدتاه، یا بنت رسول اللَّه)-.


ثم اخذن یطفقن التراب علی رؤوسهن.. و یدرن حول جثمانها الشریف الذی جللته طائفة من النوازك والانوار،.. و زینب بقربها تنادیها بدموع عینیها، و تقبلها، اینما وقعت شفتاها لتمتص اخر حس، و شعور، و حنان، و عطف تلتمسه طفلة صغیرة من أُمها حینما یحین بینهما الوداع.

.. فأن زینب هی خیر من جسدت شبح الزهراء خلقاً و خُلقاً رغم صغر سنها. و كانت الذكری المتكاملة و الفائضة بمشاعر الحب التی ورثتها عن اُمها البتول. و هی صبیة تری امامها ما قد حل من المصاب علی قلب اُمها.

فقطعت عهداً معها بمواصلة طریقها، الذی تبنته اُمها اذ ذاك، یوم وداع خدیجة لفاطمة.. فتركت الزهراء زینب امام كل هذه الهموم كما تركت خدیجة الام ابنتها فاطمة.

وها هی ابنة الزهراء بعمرها الحدث تجدد المیثاق.. و هی تری زهرة حیاة اُمها تذبل و تموت، فتحمل علی عاتقها ما قد حملته امها، و تشق درباً آخر ینهل من نفس المنهل، الذی كانت الزهراء تسیر علیه.. و ذلك فی سبیل اسلامهم الحق.

..ضج الناس بالبكاء والعویل و هم ینتظرون خروج جنازة بنت محمد المصطفی لیقوموا علیها فیصلوا.

لكن اباذر الصحابی الجلیل والعالم بوصیة بنت نبیه و مدی حزنها و المها.. علی من نقضوا عهد ابیها و وصیة فقام وصاح فی الناس:

- (انصرفوا انصرفوا فأن ابنة رسول اللَّه قد أُخر اخراجها فی هذه العشیة)-

فقام الناس و هم یمسحون مدامعهم و ینصرفون من الدار.



[1] و قد رواه في حلية الاولياء لابي نعيم ج 3 ص 301، و سنده عن جابر (ان رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم قال لعلي بن أبي طالب صلي اللَّه عليه و آله و سلم: يا ابا الريحانتين أُوصيك بريحانتي من الدنيا.. الخ)، و رواه أيضاً أحمد في الفضائل.

[2] «شكوي علي في وفاة فاطمة إلي رسول اللَّه» اعلام النساء ج 3 ص 1221 ط دمشق- لعمر رضا كحالة.